خطبة البطل الذي لا تزال الأمة تحلم بمثله

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة جمعة

البطل الذي لا تزال الأمة تحلم بمثله

القاضي / شائف الشيباني

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خصنا بخير كتاب أنزل وأكرمنا بخير نبي أرسل، وأتم علينا النعمة بأعظم منهاج شرع منهاج الإسلام (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله ورسوله، أرسله ربه بالهدى ودين الحق، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على المحجة البيضاء، على الطريقة الواضحة الغرّاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فمن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا، اللهم صل وسلم وبارك على هذا الرسول الكريم، وعلى آله وصحابته وأحينا اللهم على سنته، وأمتنا على ملته واحشرنا في زمرته، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، أما بعد

عباد الله:

أيها الأخوة الكرام الأحبة، في وسطِ ما تعيشُهٌ أمتُنا الإسلاميةُ اليومَ من أزماتٍ وفتن بما كسبت ايدي الناس حكاماً أو محكومين وفي خضمِ هذه المعاناتِ التي أحاطت بأمتنا نقول وبثقة المؤمن بربه أن النصر آت آت لأننا كمسلمين تعلمنا أن الأزمات تصنع الرجال وأن الله يصطفي من عبادة من ينتصر بهم لدينه ويبتلي المؤمنين ليعلم المجاهدين منهم والصابرين قال الله تعالى : ( ولَنبلُونكُم حتى نَعلَمَ المجاهدين منكم والصابرين ونَبلُوَا أخبارَكُم ). فالمسكين من فشل في الاختبار وسقط في وحل الفتن ولم يتورع لدينه ،أو انحاز لطلب السلامة في الدنيا وحرم أجر الآخرة. أما المؤمن فهو ذاك الذي يرى مع كل أزمة أملا يشع بضوئه المشرق ليبعث في الأمة روح التفاؤل ودنو المخرج لما تعانيه من ازمات أو حل بها من فتن.

 أيها الأخوة المسلمون:

 سنتحدث في هذه الخطبة عن قائد من قادة التحرير الاسلامي،قائدا شجاعاً لا يهاب الموت، أصطحب أحد كتابه يوما وحين كانا على مركبهم في البحر وقد هاج بهم حدثه بما في نفسه أنه خائف وسأله كيف لا تخاف أنت؟، فقال له : ما هي أشرف الميتات، قال أشرف الميتات الموت في سبيل الله، قال فهذه هي غايتي، غايتي أن أموت أشرف الميتات، لا أموت على فراشي فأحسن ما أموت عليه أن أموت في سبيل الله، أن تصيبني ضربة بسيف أو رمية برمح أو طعنة بسهم فأقتل في سبيل الله (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)، كان يلاقي جيوش الفرنجة أو الصليبيين وهم بعشرات الألوف ولكنه لم يكن يبالي بهذه الكثرة، مؤمناً بقول الله تعالى (كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةَ كثيرةَ بإذن الله واللهُ مع الصابرين)،

كان رجلاً سمحاً كريم الخلق لم ينال تلك الشهادة الكريمة من أصدقائه وجنده فحسب بل شهد له بذلك أعدئه الذين بارزهم في ميادين الجهاد وكانت لهم معه صولة وجولة .

فمن هذا القائد الذي نال أعظم نصر حققه الله على يده في القرن الخامس من الهجرة الشريفة؟.

عباد الله:

سوف نعيش في هذه الخطبة واياكم  بضع ساعة من الحياة الطيبة مع حديث نبوي شريف لا ينقطع الأمل معه على مدى عمر هذه الدنيا وحتى تقوم الساعة.

فمن البشائر النبوية العامة أحاديث الطائفة المنصورة وقد وردت عن عدد من الصحابة، جاء في حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) وإن المسلم عندما يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته، أو بدرهم أو دينار فتتحول هذه الأمنية وقوداً تشعل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله على منهج الطائفة الظاهرة على الحق في كل زمان مهما عظمت فيه الفتن واشتدت المحن فهناك طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك لا يفرقون بين اصحاب رسول الله ولا يؤذن النبي بأزواجه ولا يدعون العصمة لأحد من البشر غير الأنبياء المؤيدين بالوحي من الله سبحانه وتعالى .

ومن البشائر التي بشر الله تعالى في كتابه العزيز وعد الله للمؤمنين بالتمكين في الأرض قال الله تعالى:((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)) وقد وعد الله في هذه الآية وهو الذي لا يخلف الميعاد وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم، وأيّ أمل للمسلمين فوق وعد الله عز وجل، وأيّ رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق.

ومن البشائر في كتاب الله الإشارة إلى ضعف كيد الكافرين وضلال سعيهم، إن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يراه من اجتماع الكفار على اختلاف طوائفهم ومشاربهم على الكيد للإسلام وأهله، وما يقومون به من جهود لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم، في حين أن المسلمين غافلون عما يكاد لهم ويراد بدينهم، وحين يرى المرء ثمرات هذا الكيد تتتابع حينئذٍ يظن أن أيّ محاولة لإعادة مجد المسلمين ستواجه بالحرب الشرسة وتقتل في مهدها، فيا من تفكر في هذا الأمر اسمع لهذه الآيات: قال الله تعالى: ((إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ))

فكم من المليارات أنفقت ولا زالت تنفق بسخاء رهيب للصد عن سبيل الله لتنحية دين الله عز وجل، ولكن بموعود الله عز وجل فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون.

نعم فكم من المليارات أنفقت وبذلت لتنصير المسلمين، وكم من المليارات أنفقت لتدمير كيان الأسرة المسلمة، وكم من المليارات أنفقت لتقويض صرح الأخلاق بإشاعة الرذيلة عن طريق القنوات الفضائية وعن طريق الأفلام الداعرة والمسلسلات الفاجرة والصور الخليعة الماجنة والقصص الهابطة، والآن عن طريق شبكات الإنترنت، يعرض كل هذا وأكثر، ويدخل لا أقول كل بيت، بل كل غرفة بيسر وسهولة ودون رقيب، ولكن ما هي النتيجة، النتيجة بإذن الله عز وجل وموعده:  فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ، وتأمل في قول الله تعالى: ((إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويدا )) وقوله عز وجل: ((ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين)) فمهما كاد هؤلاء لدين الله ومهما بذلوا لمحاربته، أو لتقسيم هذه الأمة شيعا وأحزابا كتفريقهم لها الى سنة وشيعة فالله لهم بالمرصاد، وهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداء المسلمين وسيبرم الله من يوحد الأمة ويستأصل بورة الفساد وأدعياء الفرقة والشتات من المسلمين الذين لا يستطيعون الحياة  الا بالتحريش بين المسلمين واذكاء روح الفتنة بينهم.

أيها المسلمون: لقد عاش المسلمون حقبات من الزمن فيما مضى من كان قبلكم من قرون مضت  تكالبت عليهم الأعداء واستعمرت بلادهم وظهر الفساد فيهم برا وبحرا وتفرقت بلاد المسلمين وديارهم إلى دويلات ضعيفة والى مذهبية على كتاب الله وسنة رسوله في بعض الأقطار تقودهم الدولة العباسية ،وشيعة اسماعيلية باطنية متحيزة الى أهوائها و بدعها الضالة تقودهم الدولة الفاطمية التي طالما تحالفت مع الصليبين ضد المسلمين من اهل السنة النبوية راضيين بحياة الذل من اجل الحفاظ على بقائهم حكاما على مصر .

 

وفي خضم هذه الفتن ظهر قائد مغوار استيقن بنصر الله وحمل واجب انقاذ الأمة بقلب طاهر ويقين صادق وتجارة مع الله لا يبتغي الا رضاه ؟فمن هو ذلك القائد المغوار وما هو الفتح الذي فتحه الله على يده ؟؟؟

انه صلاحُ الدين الأيوبي موحد المسلمين وصاحب معركة حطين وقاهر الصليبين بإذن الله تعالى تأمر عليه والي حلب وأراد قتله فما زاده ذلك الا اصرارا  على مواجهته بعد أن استعان والي حلب كعادة الخسيسين من المنتمين للإسلام الاستعانة بالإفرنج ولكنهم لم يستطيعوا الصمودَ أمامَ قوةِ الجيشِ الإسلامي ثم كان تآمرُ الإفرنجِ على المسلمين، فهجموا على دمياطَ والإسكندرية ولكن الله هزمهم.

وهكذا ظلَ صلاحُ الدين يبذلُ جهودا ً كبيرة ً في توحيدِ الجبهة الإسلامية بعد أن كانت مفككةً لا ضابطَ لها ولا نظام ، ومن ثمَّ انطلقَ إلى مواجهةِ الأعداء الصليبين فقد اتفقت ضدَهُ جميعُ الدولِ الأوربية وجمعت جيوشاً كثيرة ً لمحاربةِ المسلمين فكان بينهم وبينَ صلاحُ الدين وقائعُ كثيرة انتصرَ فيها عليهم، فكانت موقعةُ حطين ثم تلاها فتحُ بيتِ المقدسِ.

ومن مواقفهِ الشهيرة من أجل تحرير بيتِ المقدس أنه كان بينه وبين أرناط أميرِ الكركِ هدنةً وفي شروطها السماحُ للقوافل الإسلامية بالانتقالِ بين مصرَ والشام دونَ التعرضِ لها ولكن أرناط لم يحترم هذا العهد، فاعتدى على قافلةٍ تجارية تابعة للمسلمين وكان ذلك عام اثنتين وسبعين وخمسمائة للهجرة، فصادرَ أموالها وأسرَ رجالَها ولم يكتفِ بذلك بل زاد عليه أن أساءَ إلى المسلمين وإلى النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم حيث قال للأسرى: إن كنتم تعتقدون في محمدٍ فادعوه الآن ليفك أسركم وليخلصَكُم من شر ما وقعَ بكم.

ولما علم صلاحُ الدين بهذا الاعتداء وهذه الإساءةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتدَ غضبُهُ لله ولرسوله وحلفَ إن أظفره اللهُ بأرناط ليقتلنه بيده، وهنا أخذ صلاحُ الدين يعدُ جيوشَهُ ويستنفرُ هممَ المسلمين، وبعد أن أعدَ العدةَ َ اجتمع مع رجالهِ وكانت المشورة ُ عملاً بقول الله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ [آل عمران:159]. فاتفقوا على الخروج لمحاربة الأعداء بعد صلاةِ الجمعةِ، السابعَ عشرَ من ربيعٍ الآخر سنة ثلاثٍ وثمانين وخَمسمائةٍ للهجرةِ.

وخرجَ المسلمون بعد صلاةِ الجمعةِ وهم يُكبرون ويتضرعون إلى الله والتقي الجيشان، ودارت رحى الحرب واشتدَ الحرُ على الناس ولكن اللهَ يثبتُ عبادَهُ ((إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ))[محمد:7]. و(( كَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ))[الروم:47]. وكتبَ الله النصرَ للمسلمين وكان نصراً كبيراً.

وصف العمادُ الأصفهاني مشهدَ القتلى والأسرى من الأعداء بقوله: "فمن شاهدَ القتلى في ذلك اليومِ قال: ما هناك أسير، ومن شاهد الأسرى قال: ما هناك قتيل".

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وصلاة وسلاما على من أصطفى

أما بعد:

فقد كانت لنشأة البطل صلاح الدين الأيوبي في مدرسة نور الدين، ومصاحبته لأبيه نجم الدين أيوب وعمه أسد الدين شيركوه من رجال الجهاد عند نور الدين،أثرا عظيما في نفس صلاح الدين تعزز لديه المناخ الجهادي واشرأبت هذه الروح، من أبيه وعمه وأشرأبها من نور الدين محمود، تعلم من نور الدين محمود حسن القيادة وحسن الإدارة والعدل في الناس وحب العدل وإقامة الحق والتعصب للحق، تعلم في هذه المدرسة فلما أتيحت له الفرصة حينما ذهب مع عمه أسد الدين شيركوه في حملة إلى مصر وكانت مصر في ذلك الوقت يحكمها العبيديون الذين يسمون في التاريخ بالفاطميين و حينما جاء الصليبيون تحالف هؤلاء مع الصليبيين، وكانوا على المذهب الإسماعيلي الباطني ،وكانوا في أيام دولتهم يحاربون السنة ورجال السنة ورجال الحديث وعلماء المسلمين، حتى اضطر كثير من علماء السنة أن يهجروا مصر إلى بلاد أخرى فراراً من هذه البدع التي أطلت برؤوسها وأصبحت شائعة ولا يستطيع أحداً أن يردها أو يطفئ فتنتها،

 وفي هذا الجو جاء صلاح الدين إلى مصر ومكن الله له حتى زال سلطان الفاطميين تماماً أو العبيديين هؤلاء وكان آخرهم ملكاً يسمى العاضد، كما قال ابن كثير، العاضد معناه القاطع، لا يعضد شجرها أي لا يقطع شجرها، فقطع الله به دولتهم وانتهت إلى الأبد ان شاء الله.

عباد الله:

صلاح الدين يعيد الناس إلى طريق الحق والصراط المستقيم.

جاء صلاح الدين وأحيا السنة بعد أن كادت تموت وأقام معالمها وأعاد لعلم السنة وعلماء السنة الحياة تجري في شرايين مصر من جديد وفي كل أنحاء هذه البلاد. بدأ صلاح الدين يعيد الناس إلى صراط الحق، ينفخ فيهم من روح الإيمان ويهيئ الصناع لصناعة السلاح، فلابد للأمة حينما تريد أن تلاقي عدوها من أمرين، أمر مادي وأمر روحي، لابد من هذين العنصرين أن يكتملا معاً، لابد من العنصر المادي، أن تعد لملاقاة أعدائك ما تستطيع من قوة، وهذا ما أمر الله تعالى به (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)، (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) ومن فضل الله تعالى أنه لم يأمر المؤمنين أن يعدوا لأعدائهم مثل ما عندهم من قوة، فقد يكون ذلك في غير مقدورهم، إنما أمروا أن يعدوا لهم ما استطاعوا من قوة، كل ما في استطاعتهم عليهم أن يبذلوه ليعدوا لهم العدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى يثيب في السهم الواحد ثلاثة، صانعه يحتسب في صنعته الخير، ومنبله (أي الذي يضع السهم في مكان الرمي)، والرامي به" هؤلاء الثلاثة يشتركون في الاجر.

 وفي هذا الحديث اشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلمين من صناعة الأسلحة وإعداد العدة ولكن للأسف اليوم السلاح لا نصنعه بل نشتريه من أعدائنا فلا غرابة اذن أن يعملون على زيادة فجوة الخلاف بيننا كي يتاجرون ويزدادون قوة الى قوتهم ثم لا نقوى عليهم إن تكالبوا علينا ونهبوا ثرواتنا وامتهنوا مقدساتنا كما يفعلون اليوم في فلسطين خاصة وفي أماكن عدة من بلاد المسلمين.

فأين لنا مثل صلاح الدين؟

رجلا عشق الجهاد عشقاً، مصلياً لله، لم يدع الصلاة في جماعة عدة سنين، كان لا يصلي إلا في جماعة حتى أنه إذا أصابه مرض أو إعياء يطلب الإمام في خيمته التي ينزل بها أو في بيته الذي يسكن فيه ليصلي به إماماً وهو مريض، حتى لا يدع الجماعة، وكان رجلاً عادلاً يقيم مجلساً للنظر في مظالم الخلق وفي إنصاف المظلومين كل يوم اثنين ويوم خميس من كل أسبوع ويجتمع وحوله القضاة والعلماء والصالحون ويأتي الناس من كل حدب وصوب، الكبير والصغير، والغني والفقير، والرجل والمرأة، كل من عنده مظلمة يأتي ليشكو إليه مظلمته ، فيرفع عنه الظلم ويعيد إليه الحق، ولو كان عند أقرب الناس إليه أو آثر الناس لديه أو أعز الناس عليه، يرغمه على أن يعطي الحق لأهله، وكان رجلاً عفيفاً عن المال الحرام، حتى إنه حينما توفي نظروا في خزانته فلم يجدوا فيها إلا سبعة وأربعين درهماً من الفضة وقطعة ذهبية واحدة، وجدوها في خزانة هذا الرجل الذي فتح الفتوح وغنم الغنائم من الصليبيين في بلاد شتى، فتح نحو مائة مدينة من المدن، ولا شك أنه غنم فيها الكثير وغنم منها الكثير، ولكنه أنفق ذلك كله في الجهاد في سبيل الله وفي تجهيز الجيوش والجنود، فحينما مات لم يجدوا في خزانته إلا هذا المبلغ الضئيل.

وكان رجلاً حليماً لا يغضب إذا أسيء إليه، وكم من مرة تناوله بعض الناس بما يغضب أو ربما وقع عليه شيء يحسب الناس أنه سيطير من الغضب ويفزع ولكنه كان حليماً متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

عباد الله:

معركة حطين:

كانت معركة حطين من معارك التاريخ الحاسمة انتصر فيها المسلمون انتصاراً هائلاً في ذلك اليوم كان صلاح الدين بين قادته وجنوده، يرغبهم في الجهاد في سبيل الله ويكبر فيكبرون وراءه وفي أثناء المعركة أمر أحد العلماء أن يقرأ عليه بعض أحاديث صحيح البخاري، وقال أنا أول من قرأ الحديث بين الصفين، أراد أن يطلب العلم وهو بين الصفين وأن يقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد الانتصار خطب خطبة عظيمة وقال: أيها الناس هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه البغي ولا الفخر، اسجدوا لله شاكرين وأمرهم أن يلتزموا التقوى وأن يتحروا أمر الله تعالى فيمتثلوه ونهي الله تعالى فيجتنبوه، وكان هذا يوماً من أيام الله حقا، حتى أن بعضهم رأى بعض الفلاحين يأسر نيفاً وثلاثين أسيراً وربطهم في حبل خيمة، بعض الفلاحين المصريين الذين كانوا في الجيش لم يجد شيئاً ليربط الأسرى فربطهم في حبل خيمة، كذا وثلاثين أسيراً، وسيرهم كالأغنام حوله وفدا بعضهم بنعله، لم يكن معه نعل يلبسه فأخذ منه نعله فداء وتركه، يعني كان الواحد لا يساوي نعلاً، هكذا كان هذا اليوم يوماً من أيام الله.

معركة فتح بيت المقدس

بعد ذلك ظل صلاح الدين يفتح البلاد بعد البلاد، يفتح المدن المختلفة، بيروت وصيدا وعكا وعسقلان وغزة ونابلس، كل هذه البلاد صار يفتحها بلداً بلداً، ومن كان فيها من أسرى المسلمين أطلقهم وأكرمهم

 

فتح بيت المقدس:

وهكذا، إلى أن تهيأ صلاح الدين للمعركة الثانية بعد معركة حطين، هذه المعركة هي معركة فتح بيت المقدس، فتح القدس وإنقاذ المسجد الأقصى، لقد عاث الصليبيون فساداً خلال هذه السنين، حينما فتح صلاح الدين عكا أقام فيها صلاة الجمعة وقد حرمت فيها صلاة الجمعة أكثر من سبعين عاماً، لم تصلى فيها جمعة، وهنا أراد أن يفتح بيت المقدس وعلم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بنية هذا السلطان العادل أن يفتح بيت المقدس ويحرره من أيدي الصليبيين، فجاءه العلماء والصلحاء والزهاد والأتقياء من كل مكان، يريدون أن ينالوا شرف المشاركة في هذا الجهاد العظيم، القدس، معركة القدس خاصة إنها معركة يهواها كل مسلم، كل مسلم يود أن يكون ممن يحرر القدس، يوم يفتح الباب للجهاد، حينما علم الناس بنية صلاح الدين أنه بعد حطين لابد أن يفتح القدس جاءه الناس من كل مكان، كبار الناس من العلماء والصلحاء من بلاد الإسلام جاءوا لينضموا إلى جيشه وفعلاً حاصر القدس وكان فيها أكثر من ستين ألفاً من المقاتلين الأشداء المدربين، وقد حصنوها تحصيناً بليغاً ولكن الله سبحانه وتعالى قوى قلب صلاح الدين وحاصر هذه المدينة واستطاع أن ينقض جزء من سورها وأن يهدد من كان في داخلها وجاءه قادة هؤلاء الصليبيين يستعطفونه ويطلبون منه الصفح والعفو، هؤلاء الذين دخلوا هذه المدينة فقتلوا سبعين ألفاً من أهلها أو أكثر من ذلك، وسالت الدماء أنهاراً وغاص الناس في الدماء إلى الركب حين دخل الصليبيون القدس الشريف، منذ اثنتي وتسعين عاماً هجرية، ولكن هؤلاء اليوم جاءوا يطلبون العفو والصفح ورفض صلاح الدين في أول الأمر ثم نظر في العاقبة ووجد أن في هذا العفو خيراً وعفا عن هؤلاء على أن يتركوا ويذهبوا إلى مكان أمنهم في صور في لبنان، وكل واحد منهم يدفع 25 ديناراً للرجل وخمسة دنانير للمرأة ودينارين لكل صغير وصغيرة فدية بسيطة معظمها أخذوها من مال المسلمين حينما احتلوا هذه الديار.

ونصر الله عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب الكافرة المغيرة وحده ودخل المسلمون بيت المقدس بعد اثنتين وتسعين سنة، ظل في أيدي الصليبيين، دخلوه في السابع والعشرين من رجب سنة 583 هجرية، دخلوا وكان يوم جمعة ولكنهم لم يصلوا الجمعة في ذلك اليوم لأنهم كانوا مشغولين ولم يسعفهم الوقت ليعدوا المسجد، فالمسجد مليء بالصلبان والقذارة والخنازير ولذلك لم يصلوا إلا في الجمعة التالية، أخذ المسلمون المسجد الأقصى وأصبح في أيديهم، في الجمعة التالية كانت خطبة عظيمة، خطبة التحرير، خطبة الصلاة بعد الحرمان هذه المدة الطويلة.

المعركة لم تنته بحطين وبفتح بيت المقدس:

وهكذا أيها الأخوة لابد للحق أن ينتصر ولابد للباطل أن ينكسر (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) ولكن أحب أن أقول لكم أن المعركة لم تنته بحطين ولم تنته بفتح بيت المقدس، فسرعان ما انتقض الصليبيون على صلاح الدين وعادوا إلى عكا بعد أن حررت منهم، جاءوا من البر والبحر ألوف، جاء ملك ألمانيا وكان معه مائة وخمسون ألفا معظمهم ماتوا في الطريق وفر البعض الأخر ولم يصل إلا بعدد يسير منهم، ثم جاء ملك الإنجليز ريتشارد قلب الأسد، جاءوا لم يستسلموا وظل القتال بقية عمر صلاح الدين ثم مع أولاده من بعده ثم بعد ذلك مع المماليك أيام قطز ثم الظاهر بيبرس البند قداري المملوك الذي حكم مصر والشام، بل ظل ذلك بعده أيضاً أيام القلاونيين، وفي عهد الملك لويس التاسع الذي كان يسمى القديس لويس، جاء الصليبيون في حملات متتالية، ثمان حملات أو تسع حملات بعضها وراء بعض، يحاولون أن يحتلوا هذه البلاد واحتلوها وأقاموا فيها ممالك وإمارات بالفعل ولكن الله هيأ لهم الرجال الذين استطاعوا أن ينتزعوها من أيديهم وهذا هو وعد الله حينما قال (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) النصر للمؤمنين والنصر بالمؤمنين ، كما قال عز وجل: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) إنما يتم النصر بالمؤمنين المؤتلفة قلوبهم أما المؤمنون المختلفون الذين يشرق أحدهم ويغرب الآخر ويقاوم أحدهم ويستسلم الآخر فهؤلاء لا ينتصرون إنما النصر للمؤمنين المترابطين المؤتلفين، (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم)،فالجهاد ماض الى يوم القيامة بكم او بغيركم ومهما اشتدت الأزمات نقترب من النصر أكثر اذا نحن اقتربنا من الله تعالى فلن يكون هناك صلاح الدين واجدا في هذه الامة فقد كان بعده قطز والضاهر بيبرس ومعركة لا تقل اهمية عن معركة حطين هي معركة عين جالوت وكان بعدها فتح القسطنطينية ثم كان بعدها غزو البلاد العربية واستعمارها بلدا ،بلدا فابرم الله لهذه الأمة من ينتصر لها أمثال عمر المختار وعزالدين القسام وأحمد الشقيري مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية وقاد العرب بمختلف مشاربهم معارك وثورات تحرير في مختلف البلاد العربية وهكذا.. فما زلنا مع وعد الله في الانتصار على اليهود فتقاتل معنا الشجر والحجر وعلى وعد  في فتح روما حيث تكون الملحمة الكبرى فثقوا بنصر الله واحرصوا على أن تكونوا مع الطائفة الظاهرة التي لا يخلوا زمان منها لتكونوا في منجاة من الفتن اينما حللتم وفي أي زمان كنتم، وادعوه يستجب لكم واني داع فأمنوا.

 

الدعاء:

أسأل الله تبارك وتعالى أن ينير طريقنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويوفقنا لاجتنابه، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقوى، اللهم لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، وارفع مقتك وغضبك عنا وعن جميع المسلمين ،ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين،.................................................................

 عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

 

 

  لتحميل الخطبة اضغط هنا

إرسال تعليق

0 تعليقات