خطبة حديث نبوي وفاتح عظيم
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة جمعة
القاضي
/ شائف الشيباني
الحمد لله وحدَه، القائل في مُحْكَم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ
اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
[المجادلة:
11]، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك أشهد أن محمد عبده ورسوله بلغ الرسالة
وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه فقد
أبى ومأواه جهنم وبئس المهاد القائل فيما اتاه الله من الحكمة والبيان )):إنَّ من إجلال الله – تعالى - إكرامَ
ذِي الشَّيْبة المسلِم ،وحاملِ القرآن غيرِ الغالي فيه ،والجافي عنه ،وإكرامَ ذي
السلطان المقسِط
((،
صلى الله عليه وآله وصحبه ومن أتبعهم بإحسان ،وعنَّا معهم إلى يوم الدين.
وبعد:.
في هذه الخطبة سنتحدث عن حديث نبوي حمل بشارة طيبة للأمة
وأشار إلى ميلاد أمير وجيش ذو فضل وقدر عظيم يفتح القسطنطينية وسنبين دور العلماء
في النصح لذلك القائد وخوض هول الخطوب معه في مقدمة صفوف الجيش وفضل العلم وأثره
في تكوين الشخصية الاسلامية الفذة وبناء المجتمعات الاسلامية ونهضة الأمة التي
وصفها الله تعالى بقوله : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر وتؤمنون بالله(( 110 آل عمران
عباد الله المؤمنين:
أولاً: سنعرض لبيان الحديث النبوي وما يحمله
من البشارات الطيبة وكيف تطاولت الرقاب وتسابق الأبطال جيلا بعد جيل ليفوزون بهذا
التبشير ومدح النبي الكريم لأمير الجيش وللجيش نفسه بذلك الفضل والنصر على الأعداء
وفتح القسطنطينية:-
أخرج أحمد والبخاري والبزار ، وَابن خزيمة
والطبراني والحاكم وصححه عن عبد الله بن بشر الغنوي حدثني أبي سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك
الجيش.
وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن أبي قبيل قال :
تذاكر فتح القسطنطينية والرومية أيهما تفتح أولا فدعا عبد الله بن عمر بصندوق
ففتحه فأخرج منه كتابا قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب فقيل : أي
المدينتين تفتح أولا يا رسول الله قسطنطينية أو رومية فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : مدينة هرقل تفتح أولا يريد القسطنطينية.
ومنذ ذلك الحين وقادةُ المسلمين على مرِّ العصور يُمنُّون أنفسهم
بذلك الفتْح،
ويحلم كلٌّ منهم بتحقيق تلك البشارة، ونيْل شَرَف المديح النبوي الكريم
وقد كان هذا الحديث دافعاً ووازعاً لأمراء
المسلمين في التسابق إلى فتح القسطنطينية؛ للفوز بتلك المنقبة المذكورة للجيش الذي
سيفتحها.
قال بشير الخثعمي ـ راوي الحديث ـ: «فدعاني
مَسْلَمة بن عبدالملك، فحدثته؛ فغزا القسطنطينية»، وكان معاوية بن أبي سفيان ـ رضي
الله عنه ـ قد وجَّه حملة بحرية إلى القسطنطينية عام 49 هـ، الموافق للعام 669
ميلادية، وقد شارك فيها جَمْعٌ من كبار الصحابة وقت ذاك، منهم عبدالله بن عمر،
وعبدالله بن عباس، وأبو أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنهم ـ ولكنَّ تلك الحملة لم
تُحقق أهدافها، واستُشهِد أبو أيوب الأنصاري فيها، فبعث معاوية حملةً أُخرى عام
(54هـ ـ 674م)؛ ففتح المسلمون عدداً من المدن المحيطة بالقسطنطينية.
وحملات معاوية ـ رضي الله عنه ـ إلى
القسطنطينية هي التي استشهدت فيها الصحابية الجليلة (أم حرام بنت ملحان)؛ حيث إنها
كانت قد حدَّثت عن النبي أنه قال: «رأيت قوماً من أُمتي يركبون ثَبَجَ البحر
كالملوك على الأسِّرة»، فقالت: يا رسول الله! اُدع الله أن يجعلني منهم! قال:
«أنتِ منهم»(17)؛ فأرادت أن تتحقق هذه البُشرى، فخرجت مع جيش معاوية ـ رضي الله
عنه ـ لغزو القسطنطينية، فماتت هناك ودُفنت بالقرب منها.
ثم وجّه الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك
حملةً أُخرى في جيشٍ قُوامه نحو مائة ألف جندي، على رأسهم أخوه مَسلمة بن
عبدالملك، وكان ذلك عام (98هـ، 717م)، غير أن حصار القسطنطينية لم يُفلح في فتحها
هذه المرة أيضاً، رغم استمرار الحصار عاماً كاملاً. هذا وقد كان مسلمة بن عبد
الملك واحدا من الطامعين بفتح قسطنطينية فعن عَبْدِ اللهِ بْن بِشْرٍ الْغَنَوِيُّ
، قال: حَدَّثَنِي أَبِي ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ ، وَلَنِعْمَ
الأَمِيرُ أَمِيرُهَا ، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ قَالَ عُبَيْدُ اللهِ : فَدَعَانِي
مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَسَأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ،
فَحَدَّثْتُهُ فَغَزَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ.
ولما جاء الخليفة عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه
الله ـ وجد أن دولة الخلافة الإسلامية في عصره أحوج إلى جيوشها من فتح
القسطنطينية؛ فأمر باستقدام القوات المرابطة حول القسطنطينية لِيُقوي بها دولة
الخلافة، تاركاً هذا الفتح لجيلٍ قادم
وفي العهد العباسي جرتْ أكثر من
محاولة للفتْح، كان من أبرزها الحملة التي جَرَتْ في عهد هارون الرشيد عام 190 هـ،
ولم يُكتب لها النجاح كغيرها في تحقيق الفتح المأمول.
هذا مثالٌ تفصيليٌّ واحد يدل على كيفية
تعامل المسلمين مع أخبار الغيب من الأمور القدرية التي تتعلق بها تكاليف شرعية،
وأمثلة التسابق في هذا المضمار كثيرة.
وتواصلتْ حركة الفتوح
الإسلامية بعد ذلك في مختلف الجبهات شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، وعلى الرغم من النجاحات الكبيرة
والمتواصلة التي تحقَّقتْ في غالبية الجبهات الإسلامية، إلاَّ أنَّ القسطنطينية
ظلَّتْ مستعصية عن الفتح الإسلامي، حتى كان العهد العثماني الذي لم يآل الأمراء
والسلاطين وقادة الجيوش العثمانية جهدا في خوض هذا السباق ونيل ذلك الشرف .فهل يا ترى
سوف ينالونه ومن هو القائد صاحب الحظ الذي سينال هذا الفوز ويكتب الله الخير على
يده ويحصد الأجر عند الله تعالى ويخلد التاريخ اسمه ويكنى بالفاتح أو
ملك الملوك.
ففي هذا العهد، وعلى الرغم من تلك
الإخفاقات المتعدِّدة للمحاولات السابقة لفتْح القسطنطينية، إلاَّ أنَّ
العثمانيِّين وبعد استقرار أحوالهم السياسية، والإدارية، والعسكرية عادوا من جديد
لطَّرْق أبواب القسطنطينية في محاولاتٍ إسلامية جديدة لفتْحها، وبشكل أكثر ضراوةً
من ذي قبل.
وكانتِ
المحاولة التي تمَّت على يد السلطان با يزيد (الصاعقة) في عام 796 هـ/ 1393م، من الحملات
المهمَّة في العهْد العثماني؛ حيث تمكَّن العثمانيُّون من فرْض حصار على المدينة،
كما لاحتْ بوادر النصر للمسلمين، وكادت القسطنطينية أن تسقطَ بأيدي المسلمين
سِلمًا لولا الغزْو المغولي لأطراف الدولة العثمانية شرقًا، مما اضطرَّ السلطان
بايزيد أن يفكَّ الحِصار؛ ليواجه تيمور لنك، ولتنتهي حياتُه وعهدُه باستشهاده في
أسْره، وهو في أيدي المغول عام 1402م.
وبعد أن خمدتْ لفترة قصيرة عادتِ
المحاولات العثمانية لفتح القسطنطينية للنشاط من جديد لَمَّا استردَّ العثمانيون
أنفاسَهم، واستعادوا قوتهم، خاصَّة بعد أن أعادوا تنظيمَ صفوفهم في عهْد السلطان
العثماني مراد الثاني (824
- 863هـ/
1421 - 1451م) الذي قام بأكثرَ من محاولة جادَّة لفتح القسطنطينية، ولكن تلك
المحاولات كانتْ كسابقاتها، لم يُكتَب لها النجاح في تحقيق الهدف، ونيْل الشرف.
ثانيا: أثر العلم في تكوين شخصية الفاتح وصقل مواهبه وتنمية مداركه
وتغذيته بحسن التوكل على الله والاعداد الجيد لخوض غمار السباق في مواجهة أعتى
امبراطورية حينذاك هي الامبراطورية البيزنطية:
فما هو العلم الذي صقل
هذه الشخصية الاسلامية للقائد الفاتح ؟ ومن هو هذا الفاتح؟
عباد الله : إخواني المؤمنون العلم الذي نتحدث عنه هو
العلم النافع الذي يرفع الله به عبده العالم درجات لقوله تعالى يَرْفَعِ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
[المجادلة:
11] ،ومن تلك العلوم التفقه في الدين الذي يقترن تحصيله بإرادة
الله تعالى لطالب العلم بالخير لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : (من يرد
الله به خيرا يفقه في الدين).
أما القائد الذي فتح الله على يده القسطنطينية فهو
المجاهد والفاتح الذي صقل العلم ولإيمان شخصيته وتخلق بخلق الاسلام واستحق بجدارة
شهادة رسول صلى الله عليه وسلم له ولجيشه بالفضل قبل ولادته بثمانية قرون وثلاثة
وثلاثين عاما.
فكان لصدق إقدامه ونبل اخلاقه وغزارة علمه دلالة على صدق
نبوة الرسول عليه الصلاة والسلم اتم دلالة وأصدق حديث وصدق الله العظيم القائل: ((
وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى النجم)) النجم 3-4
-
عرض نبذة عن القائد:
-
ذلك القائد هو محمَّدٌ الفاتح ابن
السلطان مراد الثاني المولود في أدرنه في رجب من عام 833هـ/ أبريل 1429م ، وهو
سابعُ السلاطين العثمانيِّين، ونجل السلطان مراد الثاني؛ أحد أعظم السلاطين
العثمانيِّين، وحفيد السلطان محمَّد جلبي الأول؛ مجدِّد بُنيان الدولة العثمانية.
فقد
مرَّنه والده على خِصال النشءِ المسلِم من ركوب الخَيْل، ورمْي القوس، والضرْب
بالسَّيْف، وكان يحرص على أن يصحبَه في معاركه بين حين وآخَر؛ ليكتسبَ الخبرة،
ويشتدَّ عُودُه على فنون الحرْب والقِتال.
- وأما
عن التعليم:
.فحسب ما وصفه
المؤرخون أنه والده السلطان مراد الثاني ما سمع برجل قد بَرَع في عِلم من العلوم، أو
مَهَر في فنٍّ من الفنون، أو اشتهر بخَصْلة من خِصال الفضيلة والخير، إلاَّ بعث به
إلى ابنِه محمَّد؛ لتعليمه ومن أشهر شيوخ
علمه - الشيخ الكوراني، والشيخ آق شمس الدين - فقد تلقَّى الفاتح في المرحلة الأولى
مِن صباه على أيديهما علوم القرآن والفقه واستمر بعد ذلك في طلب العلوم الاسلامية
الى أن تولَّى الحكم على أيَدِي عدد من
كِبار الأساتذة، والعلماء الآخرين، من أمثال الشيخ خواجه زاده، والشيخ ولي الدين
زاده أحمد، والشيخ خطيب زاده، والشيخ محمد خسرو، والشيخ سراج الدين الحلبي، وغيرهم
من كِبار المعلِّمين، والأساتذة البارزين يومئذ.
واطَّلع الفاتح من خلال بعض أولئك العلماء، وغيرهم من أهْل الخبرة
والدراية كذلك على سائر العلوم والمعارف، التي كانتْ إدارة الدولة تتطلَّبها،
وعَرف الفاتح خلال هذه المرحلة من حياته كيف يتحمَّل تبعاتِ الحُكم، وينهض بأعباء
المُلك، بعد أن دَرَس سياسة الدولة الداخلية والخارجية، كما كان الفاتح يُعْنى
بمطالعة كُتب التاريخ، ويدرس حياة كِبار الملوك والأبطال وفتوحاتهم، وعلاوةً على
ذلك فقد كوَّن الفاتح مكتبةً خاصَّة له، تحتوي قدرًا جيِّدًا من الكتب القيِّمة
التي جَمَعها وانتقاها باهتمام.
وإلى
جانب ذلك فقد تميَّز الفاتح بمعرفته بالعديد من اللغات، منها اللغة العربية
والفارسية، واليونانية والسلافية والصربية.
وصفه أحد المؤرخين الأوربيين ( لنغاستو )بعبارات فيها شيءٌ من الخوْف
والتحذير من خَطَر هذه الشخصية المسلِمة على أوربا النصرانية، حيث يقول عن الفاتح
- رحمه الله:
"هذا هو الرجل الذي علينا - معشرَ
المسيحيين - أن نواجِهَه، إنَّه شديدُ المراقبة والحذر، قادر على تحمُّل المشقَّة،
والبرد والحرارة، والعطش والجوع... ويقول: إنَّ الزمن تغيَّر الآن، إذ يسير من
الشَّرْق إلى الغرب، كما سار الغربيون (فيما سلف) إلى الشَّرْق، ويقول: إنَّ إمبراطورية
العالَم يجب أن تكون واحدة، دين واحد، ودولة واحدة، ولتحقيق هذه الوحدة "ليس
هناك في العالَم مكانٌ ألْيَقُ من القسطنطينية".
الخطبة الثانية
الحمد لله
رب العالمين، الذي شرف أهل العلم ورفع منزلتهم على سائر الخلق، وأصلي وأسلم على
سيد الأولين والآخرين، الذي لم يُورِّث دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّث العلم،
فمن أخذه فقد أخذ حظًّا وافرًا، ومن حُرِمه فهو المحروم، أما بعد:
ثالثاً: المعركة والتجهيز والإعداد لها ودور العلماء في تحفيز
الهمم وتثبيت الجند:
فنظرًا للموقع الإستراتيجي المهمّ،
ولتحقيق البشارة النبوية الواردة في عدد من الأحاديث النبوية، حَرَص الفاتح على
المُضيِّ في سبيل تحقيق غايته التي كان يَرْمي إليها، وتحقيق أمنيته التي كان
ينشدها، وهي فتح القسطنطينية.
وفي ربيع الأول من عام 857هـ/ 1453م؛
أي: بعد حوالي ثلاث سنوات فقط من تولِّيه الحُكم، كان الفاتح يدقُّ أبواب
القسطنطينية فاتحًا، ومنقذًا لها ولأهلها، وظلَّ الفاتح ماضيًا في محاولته إلى أن
تمكَّن من تحقيق النصر، ودخول القسطنطينية في يوم الثلاثاء العشرين من جمادى
الأولى من العام نفسه.
وكان مما اهتدى الفاتح إليه بالتشاور مع القادة والعلماء، بالإضافة إلى ذلك وضْع خطَّة حربية
لإحكام الحِصار على القسطنطينية، وكان من مستلزمات ذلك بناءُ قلعة (بوغازكسن)؛ أي: قاطعة
الطريق، أو ما يُعرف بقلعة
(روملي حصار)
على
الجانب الأوربي من البسفور في الجِهة المقابلة لقلعة (أناضولي حصار) في الجانب الآسيوي، وبذلك سدَّ الفاتح
- رحمه الله - خليجَ القسطنطينية على المحاصَـرين الذين - كما صوَّرهم المـؤرخ
أحمد جـودت باشا في تاريخه القَيِّم -: "اختبطتْ عقولُهم، واضطربتْ أفكارُهم،
وعقدوا للمذاكرة في هذا الأمْر مجلسًا كبيرًا في أيا صوفيا، فأخذوا يتزاحمون في
أوقات الاجتماع على التقدُّم في الجلوس، ولم يراعوا حقوقَهم بحسب مراتبهم، فأدَّى
بهم ذلك الاختلافُ إلى التضارُب بالكراسي على الرؤوس، وفتْح الآستانة، وإن كان
ممكنًا قبلَ هذا الأوان؛ نظرًا لارتباك أحوال أهلها، فإنَّ عوارضَ الزمان قد حالتْ
دونه، ثم لَمَّا صار الأمر إلى حضرة أبي الفتْح محمَّد خان المشار إليه، تمكَّن من
حلِّ هذه العُقْدة، وفاز بما كان يأمله.
وقد تعددت
الرويات عن التجهيزات والاعداد لهذه المعركة
ومن مثال ذلك:
ما
ذكره المؤرِّخ أحمد جودت عن بعض الجهود الحربية، التي قام بها الفاتحُ في التجهيز
للفتح، حيث قال: "وذلك أنَّه في سنة 857 هجرية جهَّز ( السلطان الفاتح)) المشار إليه؛
عساكرَ
جرَّارة، ومدافعَ عظيمة، وزحف إليها من جهة أدرنة وفتحها، فاهتدت الدولة العَلِية
بذلك إلى مركزها الحقيقي، وأصبح حضرةُ الفاتح بعد أن تمَّت له لوازم السلطنة بهذا
الفتح جديرًا بلَقب ملك الملوك"
ومع
إيماننا التام بأهميَّة التجهيزات الحربية المادية في سَيْر المعركة، وفي ترجيح
موازين
القُوى
بيْن الطرفَين المتحاربَيْن؛ إيمانًا بقول الله تعالى:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ
دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (الأنفال: 60)، وكذلك إيمانًا بهذه
الآية وغيرِها من الآيات القرآنية، والأحاديث النبويَّة الشريفة، التي تدعو إلى
الإعداد المعنوي - يمكن القولُ كذلك بأنَّ قضية التجهيز المعنوي لا تَقلُّ بحال من
الأحوال عن سابقتها في أيِّ معركة حربية، وأنَّ كلَّ جانب منهما مُكمِّلٌ للجانب
الآخَر.
ومما يُسجَّل للفاتح في هذا الجانب:
"أنه اعتنى بإعداد الجيش إعدادًا
معنويًّا قويًّا، وغَرَس رُوحَ الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرسول - صلَّى الله
عليه وسلَّم - على الجيش الذي يفتح القسطنطينية، وعسى أن يكونوا هم الجيشَ
المقصودَ بذلك، مما أعطاهم قُوَّةً معنوية، وشجاعةً منقطعةَ النظير، كما كان
لانتشار العلماء دَوْرٌ كبير في تقوية عزائمهم، وربْطهم بالجهاد الحقيقي المؤصَّل
وَفْق أوامر الله.
وكان
الشيخ آق شمس الدين الدمشقي من العلماء البارزين، الذين صَحِبوا الفاتح في هذه
المعركة، وكان له أثرٌ بارز في رَفْع الرُّوح المعنويَّة عند الفاتح، وعند القادة
والجيش الإسلامي، وفي تثبيت عزْمِهم، ودَفْعهم للإصرار، والمُضيِّ في سبيل تحقيق
البشارة، والمديح النبوي بفَتْح القسطنطينية
وكان محمد الفاتح قد تأثر كثيرا بالعلماء الربانيين منذ طفولته
ومن أخصهم العالم الرباني "أحمد بن اسماعيل الكوراني" مشهودا له
بالفضيلة التامة ، وكان مدرسه في عهد السلطان "مراد الثاني" والد
"الفاتح" .وقد حفظ القرآن على يده
كما
درّسه الشيخ آق شمس الدين العلوم الاساسية في ذلك الزمن وهي القرآن الكريم والسنة
النبوية والفقه والعلوم الاسلامية واللغات (العربية ، والفارسية والتركية) وكذلك
في مجال العلوم العلمية من الرياضيات والفلك والتاريخ والحرب وكان الشيخ آق ضمن
العلماء الذين أشرفوا على السلطان محمد عندما تولى إمارة مغنيسا ليتدرب على ادارة
الولاية ، وأصول الحكم .
واستطاع الشيخ آق شمس الدين أن يقنع الأمير
الصغير بأنه المقصود بالحديث النبوي: (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها
ولنعم الجيش ذلك الجيش)(2).
وعندما أصبح الأمير محمد سلطاناً على الدولة
العثمانية، وكان شاباً صغير السن وجّهه شيخه فوراً الى التحرك بجيوشه لتحقيق
الحديث النبوي فحاصر العثمانيون القسطنطينية براً وبحراً. ودارت الحرب العنيفة 54
يوماً.
ومما يذكر أن السلطان الفاتح اراد أن يكون
شيخه شمس الدين بجانبه أثناء الهجوم فأرسل
إليه يستدعيه لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليه أحد الخيمة ومنع حراس الخيمة
رسول السلطان من الدخول وغضب محمد الفاتح وذهب بنفسه الى خيمة الشيخ ليستدعيه،
فمنع الحراس السلطان من دخول الخيمة بناءً على أمر الشيخ، فأخذ الفاتح خنجره وشق
جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر الى الداخل فإذا شيخه ساجداً لله في سجدة
طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه الأبيض يتدلى على الأرض، ولحيته
البيضاء تنعكس مع شعره كالنور، ثم رأى السلطان شيخه يقوم من سجدته والدموع تنحدر
على خديه، فقد كان يناجي ربه ويدعوه بأنزال النصر ويسأله الفتح القريب(1).
وعاد السلطان محمد (الفاتح) عقب ذلك الى مقر
قيادته ونظر الى الأسوار المحاصرة فإذا بالجنود العثمانيين وقد أحدثوا ثغرات
بالسور تدفق منها الجنود الى القسطنطينية(2).
ففرح السلطان بذلك وقال ليس فرحي لفتح
المدينة إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني(3).
وقد ذكر الشوكاني في البدر الطالع أن
الشيخ شمس الدين ظهرت بركته وظهر فضله وأنه حدد للسلطان الفاتح اليوم الذي تفتح
فيه القسطنطينية على يديه(4).
وعندما تدفقت الجيوش العثمانية الى المدينة بقوة وحماس، تقدم الشيخ الى
السلطان الفاتح ليذكره بشريعة الله في الحرب وبحقوق الأمم المفتوحة كما هي في
الشريعة الاسلامية(5).
ولم يقتصرْ دور العلماء على ذلك، بل واصلوا وقفتَهم، وتجهيز
القوَّات، ورفْع الرُّوح المعنوية، والوصول بها الحدود اللازمة، حين أخذوا "يقرؤون على
المجاهدين آياتِ الجهاد في سورة الأنفال، ويُذكِّرونهم بفضل الشهادة في سبيل الله،
وبالشهداء السابقين حولَ القسطنطينية، وعلى رأسهم أبو أيُّوبَ الأنصاري - رضوان
الله عليه - وغيره ممَّن استشهدوا تحتَ أسوار القسطنطينية
ومرة
أخرى ينبري العلماء لرَفْع الرُّوح المعنوية لجند المسلمين ليلةَ الحسم "ففي ليلة 29 مايو نزلتْ
بعضُ الأمطار على المدينة وما حولها، فاستبشر المسلمون خيرًا، وذَكَّرهم العلماء
بمثيلتها يومَ بدر.
رابعا:
تثبيت اركان الدولة وبناء المساجد ودور العلم:-
كما كان من الخُطوات العملية التي قام بها السلطانُ محمد
الفاتح لإضفاء الهُويَّة الإسلامية على القسطنطينية بعدَ فتْحها أنْ بادرَ عقب
فتحها إلى استبدال اسمها باسمٍ إسلامي؛ ليضفيَ عليها الطابع والهُويَّة الإسلامية،
التي كانتْ هذه المدينة العريقة تنتظرها، حيث أطلق عليها اسمًا جديدًا، هو اسم
استانبول وهو كلمة تركية محرفة من "اسلامبول" ومعناها دار الإسلام وتحويلُ أكبر
كَنيسة بها، وهي كنيسة
"أيا صوفيا"
إلى
مسجد جامع، أصبح من أبرز معالِم
"إستانبول"
لعدة
قرون، ولا زال كذلك إلى يومنا الحاضر، على الرغم من أنَّه قد تعطَّل عن دَوْره
غالبيةَ القرن العشرين خاصَّة، وقد حُوِّل في العهد الجمهوري إلى ما يشابه المُتحف.
وممَّا يجدر ذِكْره:
أنَّ الفاتح - رحمه الله - لم يكتفِ بذلك، بل أمر ببناء مسجد
جديد في قلْب المدينة الإسلامية الجديدة، حيث تَذكُر المصادر التاريخية بأنَّه قد
"أقام المسجد على أنقاض الكَنيسة الرسوليَّة، التي كانت تُستخدَم في وقت سابق
مدفنًا للأباطرة، وأطلق على هذا المسجد الجديد "الجامع المحمدي"، أو "جامِع السُّلطان محمَّد
الفاتح
,ولا تزال تلك المساجد علم من اعلام استانبول التاريخية
وآية في الابداع والجمال ومزار لكل السواح وخصوصا المسلمين للصلاة فيها واستذكار
التاريخ الاسلامي وفتح القسطنطينية.
وعلى
النهْج الإسلامي المميَّز بمعاملة غير المسلمين في ديار المسلمين من أهل الذِّمَّة
أعلن السلطان محمد الفاتح بعد الفتْح
كذلك "في كافة الجهات بأنه لا يعارض في إقامة شعائر ديانة المسيحيِّين، بل
إنَّه يضمن لهم حرية دِينهم، وحِفْظ أملاكهم، فرجع مَن هاجر مِن المسيحيين،
وأعطاهم نصْف الكنائس، وجعل النصف الآخر جوامع للمسلمين، ثم جمع أئمَّة دِينهم؛
لينتخبوا بِطْريقًا لهم، فاختاروا جورج سكولاريوس، واعتمد السلطان هذا الانتخاب،
وجعله رئيسًا لطائفة الأروام.
ولمواكبة الوضْع الجديد بادَرَ الفاتح إلى مضاعفة العناية
بشؤون التعليم، وكان من أبرز ما قام به الفاتحُ في تلك المرحلة إنشاءُ مؤسَّسة
علمية كبرى في العاصمة الجديدة للدولة، "وكان الغَرَضُ الذي يرمي إليه السلطان
من إنشاء الجامعة العلمية تخريجَ عُلماء متبحِّرين في العلوم كلها، خصوصًا في
العلوم الدِّينية، ولهذا السبب استقدم السلطان الفاتح كبارَ العلماء والأساتذة من
البلاد الإسلامية الأخرى، واستعمل معهم جميعَ أساليب الإغراء والتشجيع، وبَذَل لهم
بعدَ قدومهم واستقرارهم ضروبَ التكريم والإنعام.
كما
قام الفاتح بإنشاء مدرسة أيا صوفيا، وولَّى عليها المولى خسرو "ففاقتِ
المدارسَ الموجودة في ذلك العهد، وحازتْ شهرة علمية كبيرة، وقصدها طالبو العلم
والمعرفة، واحتفظتْ بمركزها العلمي الممتاز سنين عديدة إلى أن تَمَّت تشكيلات
مدارس الفاتح".
ومدارس الفاتح عبارةٌ عن مجموعة من المدارس التي تبلغ ثمان
مدارس، وتُسمَّى بمدارس
"صحن ثمان"، وهي مكوَّنة من
أربع مراحل تبدأ بالخارج، ثم الداخل، ثم الموصلة للصَّحْن، ثم الصَّحْن.
وكانتْ
هذه المدارس في مجموعها "تشكِّل نوعًا من المدينة الجامعية، حيث كانت تدرس
علوم العقائد، والفِقه، والطب، وغيرها من العلوم الإسلامية التقليدي.
الخاتمة:
ومع كل ما حدث من تسابق لفتح القسطنطينية في
الأزمنة السابقة فإنها تظل تنتظر فتحاً آخر سيكون في آخر الزمان، وهو ما أخبر عنه
النبي في قوله: «الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر».
وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن أبي قبيل قال
: تذاكر فتح القسطنطينية والرومية أيهما تفتح أولا فدعا عبد الله بن عمر بصندوق
ففتحه فأخرج منه كتابا قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب فقيل : أي
المدينتين تفتح أولا يا رسول الله قسطنطينية أو رومية فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : مدينة هرقل تفتح أولا يريد القسطنطينية.
روما أو رومية تظل الهاجس الذي ينتظره المسلمون والبشارة
بالنصر والتمكين بعون الله تعالى على الروم وسيكون ان شاء الله فتحا مبينا روما
لبلاد الغرب وأوروبا كلها ونشر الاسلام فيها وربما يكون ذلك مع اقتراب الساعة
وميلاد المهدي المنتظر وخروج المسيح الدجال ونزول المسيح عيسى بن مريم
ودون تلك الملحمة الكبرى ملاحم سيخوضها المسلمون وفتن
شديدة وربما ما نحن فيه ماهو الا مقدمة لتلك الملحمة ثم الملحمة الكبرى نسأل الله
أن لا يحرمنا أجرها بم يشاء وكيف يشاء وهو على كل شيء قدير.
الدعاء:
إرسال تعليق
0 تعليقات