دراسة قانونية بشأن تفتيش الهواتف المحمولة واجهزة الحاسوب وغير ذلك من الأجهزة الرقمية القاضي شائف الشيباني
دراسة قانونية بشأن
تفتيش الهواتف المحمولة واجهزة الحاسوب وغير ذلك من الأجهزة الرقمية
القاضي شائف الشيباني
إن القدرة التخزينية الهائلة للمعلومات التي تتوافر للهاتف المحمول وغيره من أجهزة رقمية مماثلة صارت اقرب الطرق لدى اجهزة الضبط القضائي في التحري عن الجرائم وملاحقة المجرمين والقبض عليهم لما شأنها أن تعطي من معلومات مثل: العناوين، والملاحظات، والوصفات الطبية، وإفادات البنوك، تسجيلات الفيديو، والصور الملتقطة والتي يظهر عليها تاريخ ومكان التقاطها ووصفه، وغيرها من البيانات التي يحتفظ الهاتف بها والتي قد تمتد إلى وقت شرائه، أو حتى قبل ذلك ,كما يمكن الوقوف على الصفحات التي جرى تصفحها على الإنترنت، ومعرفة موقعه بالتحديد من خلال خاصية تحديد المواقع GPS ، ومعرفة تاريخ تحركاته السابقة, ومراقبة هذه التحركات تفصح عن ثروة هائلة من المعلومات عن الشخص، فإمكانها الوقوف على تفاصيل عائلته، وانتماءاته السياسية، وعاداته واهتماماته وعلاقاته وأعماله المهنية وما يعانيه من أمراض
وحيث أن ترك الأمر في متناول اجهزة الضبط القضائي مطلقا بدون احترام الضوابط الدستورية والقانونية التي تحمي الحق في الخصوصية وتجسد حرمة الحياة الخاصة من شأنه أن يجرد الانسان مما تبقى له من الخصوصية، فقد أصبح بمقدور اجهزة الضبط القضائي عبر تفتيش هذه الأجهزة او التنصت عليها الوقوف على أدق تفاصيل الحياة الخاصة للفرد، سواء أكان ذلك برغبته أو بغير ذلك.
لهذه الاعتبارات انتهت الكثير من التشريعات المقارنة والفقه والقضاء إلى أن تفتيش الهاتف المحمول او اجهزة الكمبيوتر التالي للقبض المشروع يجب أن يعامل معاملة تختلف عن الأشياء المادية التي توجد بحوزة المقبوض عليه، وأن من شأن إجازة هذا التفتيش على نحو مطلق أن ينال من حرمة حياة الشخص الخاصة؛ بل أن يجعلها خاوية من المضمون.
وقد لاحظت من خلال الاطلاع على بعض المشكلات الفنية والعملية ذات الصلة بتفتيش الأجهزة الالكترونية والتليفونات أن أنواع تلك المشكلات تنقسم إلى نوعين هما :
الأول: التفتيش الذي يلي قبض مشروع ويتجاوز رجل الضبط القضائي اختصاصه في تفتيش تلك الأجهزة بدون اذن مسبق من القضاء .
والنوع الثاني : التفتيش الذي يتم بمناسبة التفتيش الاداري في مداخل المدن والطرقات في نقط المراقبة والحواجز الأمنية ويتجاوز رجال الضبط الاداري اختصاصهم إلى المساس بحرمة الحياة الخاصة للأفراد وضبط تلك الأجهزة او تفتيشها .
أما التفتيش الذي يلي قبض غير قانوني ,أويتم بصورة تعسفية من قبل بعض جهات الضبط القضائي ,او من قبل افراد الشرطة والنقط العسكرية غير المتمتعين بصفة الضبط القضائي فلا يستحق منا قشته في هذه الدراسة لأنه ظاهر البطلان وما يترتب عليه من نتائج لا يجب الالتفات إليها فضلا عما يمكن ان يعرض تلك الجهات والأفراد من المسئولية عن تصرفاتهم خارج الاطار القانوني ,
وفيما يلي سنبين النصوص الدستورية والقانونية ذات الصلة بهذه المشكلة محل تظلم وشكاوى المواطنين :-
اولا : المبادئ الدستورية :
مادة(48)
تكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم ويحدد القانون الحالات التي تقيد فيها حرية المواطن ولا يجوز تقييد حرية أحد إلا بحكم من محكمة مختصة.
لا يجوز القبض على أي شخص أو تفتيشه أو حجزه إلا في حالة التلبس أو بأمر توجبه ضرورة التحقيق وصيانة الأمن يصدره القاضي أو النيابة العامة وفقا لأحكام القانون.
كما لا يجوز مراقبة أي شخص أو التحري عنه إلا وفقا للقانون.."
واضح من النص الدستوري أنه يضع مبدأ اساسا لحماية حرية المواطن ولا يجوز القبض عليه او تفتيشه او احتجازه الا في حالتين فقط هما :
حالة التلبس بجريمة
صدور امر من القاضي او النيابة العامة.
كما لا يجوز وضعه تحت المراقبة او التحري الا وفقا للقانون .
مادة(53) :
"حرية وسرية المواصلات البريدية والهاتفية والبرقية وكافة وسائل الاتصال مكفولة ولا يجوز مراقبتها أو تفتيشها أو إفشاء سريتها أو تأخيرها أو مصادرتها إلا في الحالات التي يبينها القانون وبأمر قضائي".
ويؤكد هذا النص بما لا يدع مجالا للجدل حرية وسرية المواصلات البريدية والهاتفية وغيرها فلا يجوز مراقبتها او تفتيشها ,او افشاء سريتها او تأخيرها ,او مصادرتها الا في الأحوال التي يبينها القانون وبأمر قضائي وهذا يعني ان المشرع القانوني نفسه لا يستطيع ان ينظم هذه الحرية بصورة تتيح مجالا لمأمور الضبط القضائي المساس بها بدون امر قضائي يصدر من المحكمة المختصة او النيابة العامة بالنظر إلى ان النيابة العامة هيئة من هيئات السلطة القضائية وأي نص من القانون يتخطى هذه الضوابط الدستورية سيكون قد ولد ميتا بتقديم تطبيق النص الدستوري عليه.
ثانيا : قانون الاجراءات الجزائية :
يؤكد قانون الإجراءات الجزائية المبادي الدستورية سالفة الذكر في المواد (131,12) الخاصة بحرمة الأشخاص والمساكن والمراسلات البريدية والمحادثات السلكية واللاسلكية والمحادثات الشخصية.
ولا يعرف قانون الإجراءات الجزائية سوى حالتين فقط يجوز فيهما التفتيش دون الحصول على أمر من القاضي أو وكيل النيابة ,وهما حالة التلبس والحالة الثانية المنصوص عليها في المادة 81 من قانون الإجراءات الجزائية ,وتنص على ان : " لمن يقوم بتنفيذ أمر القبض تفتيش المقبوض عليه لتجريده من الأسلحة وكل ما يحتمل استعماله في المقاومة أو الهرب أو إيذاء نفسه أو غيره وأن يسلم الأشياء المضبوطة للأمر بالقبض.
وإذا كان المقبوض عليه أنثى فلا يجوز تفتيشها إلا بمعرفة أنثى طبقا للمادة(143).
وهي مادة كما نرى لا تسمح لجهات الضبط القضائي بضبط الأجهزة المحمولة سواء تليفون او اجهزة كمبيوتر أصلاً دعك من تفتيشه، لأنه ليس سلاحاً ولا أداة خطرة,
أما الممارسة السائدة والمتمثلة في تفتيش محتويات المحمول، بشكل عشوائي وعلى أمل ضبط أي مادة مخالفة للقانون به، فإن ذلك في حد ذاته مخالف للقانون، بل هو يشكل جريمة تفتيش غير قانوني المعاقب عليها بواسطة المادة (169) التي تنص على أن :" يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات كل موظف عام اجري تفتيش شخص او سكنه او محله بغير رضاه او في غير الاحوال او دون مراعاة الشروط التي ينص عليها القانون مع علمه بذلك"..
ولا يجوز التذرع بالقول أن تفتيش الأشياء التي بحوزة الشخص يخضع لأحكام تفتيش الشخص نفسه كما هو الحال لسائر الأشياء المادية الأخرى التي يحوزها ,فإنه لا مجال لقبول هذا القول حتى وإن تم القبض او التفتيش وفق إجراءات صحيحة، فلا يخول أجهزة الضبط تفتيش محتويات التليفون المحمول او اجهزة الكمبيوتر بدون اذن قضائي ,وذلك أن المادة(53) من الدستور تؤكد بصراحة على حضر مراقبة تلك الأجهزة أو تفتيشها أو إفشاء سريتها أو تأخيرها أو مصادرتها إلا في الحالات التي يبينها القانون وبأمر قضائي.
فإن هذا النص يوضح بجلاء أن الدستور قد انحاز إلى حرمة الحياة الخاصة وحرية الاتصالات بأن أوجب أن يصدر أمر قضائي بالاطلاع على وسائل الاتصال أو ضبطها أو رقابتها.
والمقارنة بين هذا النص الذى يستوجب صدور أمر قضائي ، ونص المادة 48 من الدستور في فقرتها الثانية التي أباحت لمأموري الضبط القضائي القبض او التفتيش او الاحتجاز في حالة التلبس
ففي حين أجاز نص المادة 48 سالف الذكر المساس بالحرية الشخصية في حالة التلبس فأجاز القبض والتفتيش والاحتجاز ؛ فإن نص المادة 53 سالفة الذكر لم يتضمن مثل هذا الاستثناء، ويعنى ذلك أن الجمع بين النصين يؤدى إلى نتيجة مفادها أنه في حالة التلبس يجوز القبض على المتهم وتفتيشه؛ غير أنه لا يجوز تفتيش وسائل الاتصال التي بحوزته أو مصادرتها أو الاطلاع على محتواها، ومن بين هذه الوسائل الهاتف المحمول وما يماثله من أجهزة , والقول بغير ذلك فيه إهدار لنص المادة 53 سالفة الذكر، وينطوي على إفراغ النص الدستوري من محتواه.
فإذا كان هذا الحال من الحرص والمنع الدستوري والقانوني في الأحوال التي يكون القبض مشروعا وبسبب جريمة لتجريده من أي سلاح او ادوات خطرة يمكن استخدامها في المقاومة او الهرب او للحصول على ادلة الجريمة التي تكون مع الشخص ؛
فيكون المنع اولى في المساءلة الثانية المتعلقة بالتفتيش الاداري الذي يتم بمعرفة رجال الضبط الإداري في مداخل المدن والطرقات والحواجز الأمنية او في المنافذ الحدودية او في المطارات او الدخول إلى المعسكرات والثكنات العسكرية او المؤسسات والمصانع التي يقتضي لدخولها التفتيش اداريا لكل من يرغب في التحرك في اطار تلك الأماكن ومن ذلك ايضا التفتيش الاداري للسجناء عند استلامهم مقبوض عليهم لإيداعهم في المؤسسات العقابية او اماكن الاحتجاز ,او عند استيقاف السيارات في حالات استثنائية بسبب وضع قائدها نفسه موضع الشبهات بسلوك يصدر عنه اختياراً يكون باعثا للاعتقاد بوجود ممنوعات فيها أو اشياء خطرة ,وهو نطاق لا يمكن تحديده مسبقاً، ففي حالات معينة يمكن أن يشمل السيارة بأكملها، بما في ذلك الصندوق الخلفي وقد يمتد إلى الأشخاص الراكبين عليها في حالات معينة اذا كان لرجل الضبط اسباب معقولة تبرر له اتخاذ مثل هذا الإجراء دون أن يتصف عمله بالعشوائية او التعسف في استخدام صلاحيته وكذلك الحال عند استيقاف المارة لنفس الباعث والأسباب التي ذكرناها آنفا .
لكل ما تقدم :
نؤكد بأنه لا يجوز لمأموري الضبط القضائي استخدام صلاحيته في القبض والتفتيش إلا أن تكون جريمة معينة وقعت بالفعل ويجرى البحث والتحري عن فاعلها وجمع أدلتها ، أو بسبب التلبس بجريمة مشهودة فيكون له بمقتضى دوره كأحد رجال الضبطية القضائية أن يباشر هذه الصلاحيات مقيداً في ذلك بأحكام قانون الإجراءات الجزائية .
وأن كل ما تقدم بكافة صور الضبط القضائي او الضبط الاداري لا يصح أن يمتد إلى تفتيش التليفونات او اجهزة الكمبيوترات وحسب مأموري الضبط القضائي ضبط تلك الأجهزة بسبب جريمة وقعت بالفعل اذا كانت لازمة للبحث والتحري عن الحقيقة والوصول إلى ادلتها ومعرفة فاعلها وتسليمها للنيابة العامة التي يكون لها صلاحية تفتيشها او منح الاذن بذلك وأن القول بغير ذلك من شأنه أن يعطل النص الدستوري المادة (53) ويخرجه عن مقتضى ارادة المشرع ويجعل من تصرف الجهات الضبطية معيبا بعيب الخطأ في تطبيق القانون وربما عرضه للمسئولية القانونية.
العقوبات المقررة لمخالفة القانون في القبض او التفتيش او الاحتجاز:
اولأ : الحجز على الحرية:
مادة(246) يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات من قبض على شخص او حجزه او حرمه من حريته باية وسيلة بغير وجه قانوني وتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات اذا حصل الفعل من موظف عام او بانتحال صفته اومن شخص يحمل سلاحا او من شخصين او اكثر او بغرض السب او كان المجني عليه قاصرا او فاقد الادراك او ناقصة او كان من شان سلب الحرية تعريض حياته او صحته للخطر.
اعداد سجن خاص
مادة(247) يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات او بالغرامة كل من اعد مكانا للحبس او الحجز فيه بدون وجه حق او اعاره او اجره او قدمه لهذا الغرض بدون ان يشترك في القبض على انسان او حبسه او حجزه.
ثانيا : التفتيش غير القانوني :
ماده(169) يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات كل موظف عام اجري تفتيش شخص او سكنه او محله بغير رضاه او في غير الاحوال او دون مراعاة الشروط التي ينص عليها القانون مع علمه بذلك.
مما يتعين الالتزام بالقانون وفقا لما انتهينا إليه من رأي في هذه الدراسة ونوصي كافة الجهات الادارية التي يتبعها مأمورو الضبط القضائي نشر التوعية القانونية كما نوصي كافة اعضاء النيابة العامة متابعة ومراقبة تقييد جهات الضبط القضائي بالقانون واهدار أي دليل لا يلتزم مأمورو الضبط القضائي بتحصيله بالطرق الجائزة شرعا أو تم تحصيله من جهات غير معنية بالضبط القضائي واعتباره كأن لم يكن.
،،،وبالله التوفيق،،،
حرر بتاريخه العاشر من رمضان 1443هـ الموافق 11 ابريل 2022م
القاضي | شائف علي محمد الشيباني
رئيس دائرة التدريب والتأهيل بمكتب النائب العام
إرسال تعليق
0 تعليقات